من خلال معايشتي لمراحل التعليم في فترة التسعينات الهجرية بـ (باب الكومة بحي السيح، المطل على سيل أبي جيدة بالمدينة المنورة)، علق بالذاكرة عن هذا الحي أنه كان الأشهر علميا في المدينة وقتها، وأنه تميز بكونه منارة علمية، ومدرسة شرعية فريدة بحق، وأنه كان تشد الطلبة إليه الرحال من كل مكان لتعلم العلوم الشرعية النافعة، والعقيدة الصحيحة.

وأنه كان حيا يسكن به عدد كبير من العلماء الذين كانت لهم حلق لتعليم القرآن، ودروس لتعليم العلوم الشرعية المختلفة، وكان بعضهم من المدرسين في المدارس العامة، وفي المسجد النبوي، وفي الجامعة الإسلامية،

وأن أبرز هؤلاء العلماء في تدريس العلوم القرآنية الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (صاحب تفسير أضواء البيان)، والمدرس بالمسجد النبوي،

وكذلك في تدريس الحديث وعلومه الشيخ محمد المختار سيد الأمين مزيد(أحد علماء الحديث المعروفين)،

وفي تدريس الفقه الشيخ القاضي محمد عبد الله بن آدو (أحد القضاة المشهورين بأملج، والمهد)،

وفي تدريس أصول الفقه الدكتور أحمد محمود عبد الوهاب ( رئيس قسم أصول الفقه بالجامعة الإسلامية)،

وفي تدريس النحو، واللغة الشيخ غالي بن آفا ( المدرس بمعهد إعداد المعلمين)،

وفي تعليم القرآن الكريم وعلومه، وتصحيح المصاحف الشيخ محمد الأمين الأيدة الشنقيطي (المدرس بمحافظة بدر، ونائب مدير قسم النص بمجمع الملك فهد)،

وفي تحفيظ القرآن الكريم الشيخ محمد المختار بن عبد الرحمن (خطري) سادي(مختبر الأئمة بإدارة الشؤون الإسلامية)،

وفي التدريس بالمدارس العامة الشيخ محمد بن الشيخ (المدرس بمدرسة سعيد بن المسيب)، والشيخ محمد الأمين الحسين (المدرس بمدرسة أبي بن كعب)، والدكتور عبد الله عمر الأمين (المدرس بالمسجد النبوي)، والدكتور محمد سيدي محمد الأمين (الأستاذ بالجامعة الإسلامية)، والشيخ العالم بن عبد العزيز( القارئ بالمسجد النبوي في درس الشيخ محمد الأمين صاحب أضواء البيان)،

وفي التدريس للصغار من البنين الشيخ عبد الدايم ولد الشبرا، وللصغار من البنات الشيخة أمني بنت اجيه.

وأن الدراسة على يد هؤلاء العلماء كانت أمرا جميلا محببا للنفوس فقد كان اليوم الدراسي في كل أسبوع عدا الخميس والجمعة يبدأ يوميا من صلاة الفجر، وينتهي في المساء تتخلله فترات راحة خلال العطل، وفي أيام الدراسة والعمل تكون الدراسة به بعد انتهاء الطلبة من الدراسة، أو انتهائهم من الأعمال الوظيفية، فتبدأ من العصر، وحتى بعد العشاء، وأن الدراسة العملية كانت من خلال أجزاء المصاحف المتوفرة للحفظ، أو من خلال الألواح الخشبية، أو من الكتب المطبوعة، أو من المخطوطات، وأن الشيخ أو المعلم كان يصحح النص، ثم يطلب من الطالب مراجعته، ثم تقسيمه إلى خمسة أسطر، يكررها (100) مرة، ثم يقرأها من حفظه مراعيا المتشابه، ثم يشرح له الآيات، أو المتن، أو الكتاب، ثم يقوم بالمراجعة، ثم بالتسميع ثم يعطى الطالب الإجازة العلمية.

ومما لاريب فيه أن هذه المدرسة العلمية الفائقة على هذا الطراز الفريد آنذاك قد خرجت طلبة لا يحصون متمكنين من العلوم الشرعية، مع الحفظ الجيد للمتون المختلفة، والقوة في التركيز، والحفظ، والفهم للكتب على أسس صحيحة، وعقيدة قويمة، مع الانصراف بالكلية للعلم، ودروسه، ومما يُذْكر عن (صاحب تفسير أضواء البيان) قوله:

فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاح .. ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها ضوء الصباح

وأخيرا: مما يحمد لهؤلاء العلماء أنه قد تخرج على أيديهم الكثيرون الذين استفادوا من علومهم الجمة ممن تبوؤوا المناصب العلمية الشرعية الكبيرة، أو ممن تبوؤوا المناصب العليا الرسمية في الدولة، أو صاروا من الطلبة ذوي الشأن في بلدانهم، ولم يكن لهذه الجهود العلمية الطيبة أن تتم إلا بعد توفيق الله عزوجل ثم برعاية قادة هذه البلاد المباركة لأهل العلم، وحفاوتهم بالعلم والعلماء؛ فكل من أعطى للمملكة فهي لا تنساه، وتبادله العطاء، وقد خلدت المملكة -حرسها الله- هذه الذكريات العزيزة على القلوب حيث قام صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- أمير المدينة وقتها بالتوجيه بتسمية شارع السيح باسم الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، تكريما، وتخليدا لمسيرته العلمية، فاللهم اجزهم خير الجزاء، ووفق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين لكل خير، واحفظهما من كل سوء إنك سميع مجيب.

مراجع:

-إمتاع الفضلاء بتراجم القراء فيما بعد القرن الثامن لإلياس البرماوي(مطبوع).

-طريقة حفظ القرآن الكريم عند الشناقطة لإبراهيم بن أب الحسني الشنقيطي(مطبوع).

– علماء مفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب(مطبوع).

-معجم أعلام القراءة بشنقيط لأمين الشنقيطي(منشور بمجلة الشاطبي عدد32).