
المِسْقَام
يمضي بأفولٍ غافٍ يمد فيه راحتيه بين صدى المجاديف وأعراس المرافىء ويخبيء يأسه خلف قناعه مابين صوت الموج ولهفة الأصداف حينما تتموج تحت جلد البحر المالح ورياح الليل التائهه بسراب الغبار .
فثقوب وجهه منطفئة توشك أن تغرب عن خصلها فقد احدودبت فوق جذعها كل أوراق الصبار التي تُروى بماءٍ عكر . يقطر أطياف بأسه كل ليلة وهو يحمل معه جسده الربيل يستقصي عن مجلسه بظمأٍ حازم عن أي سجالٍ يكابد عليه ويشرع ببعثرة درايته ضئيلة الأفق مع من يبصر ومن لايفطن فهو الحكيم الحاذق . وهو في ضوء عينيه الهادئتين المتورمتين وشاربه المُقتضب المنثور على شفاهٍ حانقة درغام جاسر ينقب عن طريدته التي هدَّها الإعياء فأبطأت عن القطيع فيراها فرصة سانحة ليبسط معها أطراف الحوار ولكن أين المنطق في ذلك ؟
فقد أبحر في يوم من الأيام وفي إحدى ليال الشتاء الرومانيه القارسة والمعتقة صياد أشيب غصت به الغلول فلم يجد أمامه إلا ولوج اليم وكان مراده لايتعدى بضعة أسماكٍ ولم يكن يعلم بأن القدر سيباغته …
رمى بشبكة صيده المهترئة وهو في أشلاء البحر وارتقت له عدة أسماك صغيرة تراقصت أمام عينيه بحزنٍ شفقي خجول وهلعٍ سرمدي طائش تجعدت جفونه على سيماء طفلٍ لطيم فغسل الصياد خيوطها التي نسجتها شبكته إلى جذور ماءها مرة أخرى وبينما هي ساهية عيناه إلى الأفق البعيد جثم بمتاخمته على قاربه الخشبي غراب البين ففزع .
لذلك فطمأنته تلك الهيئةُ الحالكة بأن يبحر صوب الشمال عدة عقد بحرية فقد رأى هنالك أسماك تهتز فوق الماء من نشوتها فاستجاب لذلك حتى غاب الشاطىء عنه ونام كل شيء منه والتفت الصياد بعد أن وهنه الفتور إلى الفحيم الداكن فصادفه يغط في غفوةٍ مغنَّجة فزمجر فيه أين الأسماك يا غربيب فأنبأه بأنها هناك في غور تلك التلة ومشارف تلك الجزيرة وحلق الغراب نحو مستقره بعد تمجيده للصياد فأحتد إمتعاضاً ولم يهجع حتى علم من طائر النورس أن رفيقته تترقبه بولهٍ لايوصف على الشاطىء …
وقد قيل بأن من قال لا فقد أفتى … كلماتٌ تبحر كالحنين في جداول المساء وتنسج من ضوءها سنابل لوشاح القمر و اكاليل الجبل و خرير النهر… إنها نبض الندى لرحيق الورد وأنغام العشب حينما تذوب في أحداق الزهر …
وتلك لعمري زنابق القصيدة التي يقطن الفؤاد فيها وتتوارى في محيط ظلالها أسياط الضغينة ومواويل الفتن !!! .