
حين صمتَ الحب ونطقت الأنا
في الزمن القديم، كان الفن ينبض بما تختزنه الأرواح من حنين، توق، وشغف صادق نحو الآخر.
كان الحب في الأغنية يمثل الامتلاء العاطفي، والتعلُّق بالمحب كركنٍ من أركان الطمأنينة الإنسانية.
ففيروز تُغني: "بكتب اسمك يا حبيبي عالحور العتيق"، وشادية تتوسل الزمن: "إن راح منك يا عين، هيروح مني فين؟"، أما نوال الزغبي فكانت "على بالها تقعد بجانبه"...
كلها أصوات تصوغ الإنسان ككائن يتكامل بالمحبّة، ويجد اكتماله في الآخر.
لكن شيئًا ما تغيّر!
الفن، بإعتباره مرآة المجتمع، بدأ يعكس صورة مختلفة للإنسان المعاصر.
لم يعد صوت الحب هو الغالب، بل حلَّت محله نغمة باردة من الإستقلالية المؤلمة، وأحيانًا العدائية.
تُغني أحلام: "ابعد عن دروبي، خلك في غيظك موت مالك أمل صوبي"، وتقول مايلي سايرس في أغنيتها الشهيرة Flowers:
"I can buy myself flowers… I can love me better than you can".
وكأن الرسالة: "أنا لست بحاجة لأحد، حتى الحب… أستغني عنه بنفسي".
هذه التحوّلات في الأغنية ليست مجرد تغير في الكلمات، بل هي انعكاس لتحوّل أعمق في وعي الإنسان، وخصوصًا في رؤيته للعلاقات.
لقد تحوّل من الكائن المتعلِّق بالجماعة، إلى فردٍ يقدّس إستقلاله، ويخشى الإرتباط كما لو كان تهديدًا لحريته.
يشرح المفكر البولندي زيغمونت بومان هذا التحول في كتابه "الحب السائل"، حيث يرى أن الحداثة المتسارعة حولت العلاقات إلى أنماط "سائلة" لا ثبات فيها، لا إلتزام طويل، ولا رغبة في التورط العاطفي الكامل.
أما إريك فروم فيقول في "فن الحب" إن الحب مهارة تحتاج النضج، لا إنفعالاً عابرًا أو رغبة في الإمتلاك أو الإنسحاب.
وبين هذين التفسيرين، نجد أن الأغنية اليوم صارت تصرخ بما يخفيه قلب الإنسان المعاصر: أنا موجوع، لكنني لن أظهر ضعفي… وسأحب نفسي إن أضطررت.
فما بال الإنسان؟ لقد تغيَّر.
لم يعد يرى العلاقة ملاذًا، بل قيدًا. لم تعد الحميمية أولوية، بل مسؤولية قد تُعيقه عن ذاته.
ويبقى السؤال الكبير مطروحًا: هل نضج الإنسان فأستغنى؟ أم خاف فأنعزل؟ في الحالتين، فإن الفن يُجيبنا دائمًا بوضوح: صوت الإنسان تغيَّر… وصدى قلبه كذلك.